بِمثل هذه الصورة رَفَعت أمريكا راية الحرب على“الإرهاب“، وأطلقت مصطلح ” الحرب الاستباقيــــــــــــة “لتضع يدها على أفغانستان والعراق، على مصادر النفط في “الشرق الأوسط” وعلى بوابات الغــــــــاز والثروات في بحر قزوين. هذا العمل حشد الرأي العام العالمي والإنساني وأظهر أمريكا بمظهر المظلوم.
“المظلومية” التي استخدمها الكثيرون لحشد التعاطف أو لاستدرار العطف، فعلها الشيعة. و الشيوعيـة، وجماعات عرقية عديدة، واستخدمتها أمريكا لتنقذ “الحضارة الغربية” من أعدائها الذين يحسدونها عليها، و هم المسلمون “البرابرة” حسب وصف برنارد لويس , وآخرهم البغدادي في ندائه الشهيـــــــــــــــــــــر
“لكِ الله أيتها الدولة المظلومة”.
أميركا التي تنفق ما يقارب 700 مليار دولار – سنويا – على ميزانية الدفاع . و التي تدين للعالم بما يقارب من (15) تريليون دولار , لن تستطيع أن تحافظ على قيادة العالم إلا إن وضعت يدها على أهم ثرواته و هو الوقود الذي بنى الحضارة الغربية , والذي لم يماثله عبر التاريخ في أهميته إلا ” الرقيق ” من أفريقيا , الذي شكّل اليد العامـلة لبناء هذه الحضارة.
يبدو أنّ معاناتنا مع الغرب لن تنتهي , فكلما وقع الغرب بأزمةٍ اقتصادية أو سياسية . افتتح حرباً في هذه المنطقة , دينية كانت أو سياسية أو اقتصادية , المهم أن يُصدّر أزماته عبرنا , و يبدو أننا أصبحنا أكثر تآلفا مع هذه الأحداث فاعتدنا التدمير و الحروب لدرجة أننا نكاد لا نذكر آخر مرة سجل فيها التاريخ لحظاتنا الهادئة .
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي , اكتشفت أمريكا أنها في أزمة , فهي التي كانت تقود العالم بالحرب الباردة و تفرض سياستها على أوروبا و غيرها لحمايتها من الغُول الشيوعي , وجدت نفسها و كأنه سيتم التخلي عنها أو سيتم تحجيم دورها , فكانت أحداث أيلول التي قسمت العالم إلى قسمين (من ليس معنا , فهو ضدنا) , و بدأت الحرب على الإسلام , و فضحت زلّة اللسان لجورج بوش الابن بوصفها حربا (صليبية) لتوضّح لنا حقيقة المشكلة , تياران يقودان المعركة : شركات مالية و بنوك و شركات طاقة , جنبا إلى جنب مع تيار ديني صهيوني مسيحي , يزعم أن الأرض الموعودة لهبوط المسيح يجب أن تكون تحت سيطرتهم لتجهيزها لقدومه و بناء الهيكل .
ليس مصادفة أن يتفق الطرفان على إنشاء “إسرائيل” فهي بالنسبة لرجال المال و الأعمال الحصن المتقدم للحضارة الغربية على منابع النفط , و في مواجهة الخطر الآسيوي , و بالنسبة للصهاينة أرض الميعاد , و حسب تعبير ” تيودور هرتزل ” – الملحد – فهي أفضل طريقة لفصل و عزل العرق اليهودي عن أوروبا , و هذا الذي جعله يقنع زعماء أوروبا لمنحهم فلسطين كأرض للميعاد قبل أكثر من قرن .
جاءت الحرب العالمية الأولى التي أظهرت و بشكل لا يقبل الشك أن المستقبل هو للنفط , فهو العنصر الفعّال في ماكنة الاقتصاد الصناعي فكان لابد من تقاسم هذه المنطقة الغنية بالنفط , و ازدادت خبرة الغرب بهذه المنطقة و طباع أهلها , و وضعت الخطط و السيناريوهات طويلة الأمد لإبقائها تدور في دوامة الحرب و التخلف و إبعادها عن عقيدتها .. الإسلام.
في مطلع القرن الحالي أطلقت أمريكا مصطلحات ” القيادة من الخلف” و “الحرب الذكية” , و “حروب الجيل الرابع” , لتعزّز نشأة ما سمي لاحقا بـ “الصحوات” في هذه المنطقة ’ وقود الحركات الإسلامية و المحفز لها على الاستمرار , فمن ليس معنا فهو ” صحوات ” , ذات الشعار الغربي و لكن بمفهوم آخر .. و يتفرغ الغرب لخططه في آسيا و الباسيفيك , هذه المنطقة بحسب “ليون بانيتا” و “هيلاري كلينتون” هي منطقة القرن الحادي و العشرين الذي هو “قرن الباسيفيك بامتياز”.
لكن لمَ كل هذا …؟
إن خطة من هذا النوع ستشكل رادعاً للمشروع الفارسي و إشغاله بحرب عرقية عقائدية , و ستؤدي بالتالي إلى إنهاك المنطقة و تدميرها بأيدي أبنائها و بأموال النفط فيها و بأسلحة الغرب , و سنقتل بعضنا بعضاً تحت شعارات كثيرة , و سيوفر ذلك على الغرب الخسارة في الجنود , وسيُموّل هذه الحروب حكومات تخشى على بقائها من بني جلدتها أو من محيطها لتبقى قابعة تحت سيف القوى العظمى التي تحميها وتحافظ على بقائها و تبيعها السلاح , وتبقى شعوبها قابعة تحت سلطانها بذات الذلّ .. , كل ما يلزم هو أن يقوم الغرب ببضع عمليات جراحية و بأسلحة متطورة لتخلق حالة من المد و الجزر بين الحركات الإسلامية و الصحوات و لا قيمة للزمن بالنسبة لنا , و لا قيمة لأي بنية تحتية , فبمجرد أن ندفع ثمنها و نبنيها , فنحن جاهزون لتدميرها بأيدينا أو بأيدي الحكام و الأمراء مرة أخرى و في حروب جديدة .
وكي لا تقوم لنا قائمة , كان لا بد من مركز دائم و علامة تجارية فارقة , توازي أو تتفوق على أحداث أيلول , لا بد لنا من ” خليفة ” طاعته واجبة و بيعته شرع قائم , و إلا فنحن بحكم الشرع صحوات و لا داعي لفتاوى العلماء , فالفتاوى كثيرة و الكتب تزخر بهذه الفتاوى و الاجتهادات كثيرة , و كلٌّ ينتقي الاجتهاد الذي يناسب هدفه و يحققه .
إنها نقطة تفريغ لجهود المسلمين و أجيالهم و طموحاتهم , و نقطة استقطاب للمتحمسين المغرّر بهم , و الصّدم سيكون على أشدّه , لم لا , طالما أن القتل تَقرُّب إلى الله , و الحَجر على الحريات مدعّم بالكثير من الاجتهادات و لو على الشبهة , و يكفيك أن تُحسن القراءة لتنشئ أحكامك الخاصة , فباب الاجتهاد مفتوح و يكفيك التأويل لتخرج عن أي إجماع للأمة , فإن لم تجد , فبإمكانك التجديد , فأنت أمّةٌ وحدك!!
هذا الاضطراب , سيكون بعيداً عن منابع النفط و ممراته , و سيخلق حالة من عدم الأمان في المنطقة , مما يكفي ليدفع بأموال النفط للهرب إلى الغرب فيحافظ الدولار الوهمي على قوته , و إن حصل و انتصر أي فريق على الآخر , فلا بأس من حِصاره , أو احتوائه و التفاوض معه و البدء بلعبة جديدة , طائفية أو عرقية أو مناطقية.
و كذلك سيكون هذا الاضطراب بعيداً عن الغرب , فحروبنا بيننا و على أرضنا , و نحن وقودها مادياً و بشرياً.
العقول التي لم تُقتل , ستهاجر إلى الغرب و سيتم استثمارها مقابل مبادلتها بالأمن و الغذاء , و الأجيال الناشئة ستكون بين مطرقة الجهل و سندان التغريب , و يبدأ فصل جديد و تجربة إستراتيجية جديدة .
تنظيم البغدادي تم استدراجه ليكون شوكة في خاصرة الأمة و خاصرة الثورة السورية , و هو بهذا الإعلان تحوّل إلى فيروس يفتك بالعقل الإسلامي – نفس المشكلة التي عانينا منها بعد ثورة الخميني التي أورثتنا قتلة يسفكون دماءنا بكل رضا و سعادة – , فالمسلم حائرٌ بين فتاوى الإمامة و البيعة و الإجماع , و أهل الحلّ و العقد , و الأئمة منقسمون في حالة من التشظّي , فبين موافق , أو رافض , أو صامت و محايد , و لا إجماع على حالة و لا أغلبية لقرار , و البقية من عموم الناس لا حول لها و لا قوة , تنتظر حلاً , فإما مغالب تخضع له لتنجو من القتل ريثما يحصل انفراج أو قوة , و بين خوف من العودة إلى الاحتلال و ضياع التضحيات يدفعها للاستعانة بأعدائها و تتحول إلى صحوات , خياران لا حلو فيهما ليقال أحلاهما مر .
خطابي هذا للعموم , و ليس للقيادات أو الأمراء , أَجمِعوا على إخراج هذا التنظيم من سوريا , الخيار الوطني هو خيار لابد منه , لا تصدّقوا الاتهامات بأن الوطنية كفر , و لا تقعوا فريسة وَهم سايكس بيكو , فحدود سايكس بيكو ليست على الخرائط , بل هي في وجدان الأمة و أبنائها و كلنا يعلم ذلك , و عندما تسقط هذه الحدود من وجدان الأمة بالتعايش و التعاون و التكامل , عندها تسقط من الجغرافيا , العائلة التي تعيش في مجتمع فاسد , من حقها أن تحمي بيتها و من حق رب الأسرة أن يمنع الفاسدين من الاختلاط بأبنائه , إن لم تلتفّوا حول إجماعٍ وطني يحقق مرحلة أولى من التحاور و بحث المشكلات فنحن في ورطة لا نهاية لها ستستنفذ كل ما لدينا .
لا تقعوا فريسة للمشاريع ” المعلّبة ” و الجاهزة , مشروعنا نعرفه منذ خرجنا في أول يوم في الثورة , إنها حرب استقلال و ليست إعادة اقتسام للسلطة و مناطق النفوذ , نحن لم نخرج لنصنع انقلاباً , بل خرجنا لنحرر الأرض و الإنسان من الوصاية و استلاب القرار , و من يخشى على الدين و الأرض , فهذه البلاد هويتها ليست محل نقاش أو اجتهاد , هي إسلامية بامتياز , و هي عقر دار الإسلام , فإما فرصة لالتقاط الأنفاس و البدء بالبناء و نبذ الفرقة و الاختلاف , و إلا فهو الدمار للجميع و لأجيال كاملة.
نحن بالنسبة للغرب نواجه حقيقة قديمة لم و لن تنتهي , فوجودنا في هذه المنطقة على مر التاريخ كان غير مرغوب فيه و غير مناسب لهم و مزعج لدرجة أن أي ملك أو قيصر في الغرب كان يتحمس لإرسال جيوشه للقضاء علينا حتى لو لم يكن يعرفنا , الآن جاءنا وافد جديد يشعر بذات الشعور فهو غير راغب بوجودنا و يرانا غير مناسبين لمهمته الجليلة (أقصد به تنظيم البغدادي) , فاستعيدوا قراركم بالإجماع على حل حقيقي يوفر علينا الكثير من المعارك , و يوحد الصفوف باتجاه حرب التحرير .
لمن يسأل ما هو الحل , القيادات الموجودة على الساحة إسلامية و غير إسلامية , ندعمها و نعزز مكانتها لبناء مشروع وطني جامع للسلطة , واضح المعالم و تشاركي و بعيداً عن التعقيد و التنظير ,يتم من خلاله تحديد شكل لتطبيق القانون و حماية الدين و الأنفس و الأموال … المواطنة حق لكل من نشأ على هذه الأرض , و لن نلقي بأحد في البحر , و الفاسد نستطيع منع فساده بالقانون , و نستطيع إصلاحه بالدين و الدعوة .
العدل حق لكل مظلوم , و القصاص من الظالم أو المعتدي شرعة إنسانية تُقرّها كل الأعراف و الأديان فهي ليست محل خلاف و لن يفلت أحد من العقاب إن تم تطبيق القانون .
الناس لن تستطيع الوقوف على أرض رخوة , الفوضى و الحيرة و اختلاف آراء العلماء , و نسبة الجهل بين الآخرين , هي أرض رخوة و لا تبني العزيمة و لا تحقق الهدف , بل هي استثمار ممتاز في الحروب فقط و ستعجز عن بناء الدولة , و هي ثغرات في العقل الإسلامي ستحوله إلى أدوات ” للشد العكسي ” و متوالية الجهل و التخلف , و ستفتح الباب لكل طاعن في الإسلام و مشكك به , و بدأنا نرى من يشكك بالأحاديث و التاريخ , بل بدأت عمليات تشريح لشخوص الصحابة رضي الله عنهم أجمعين . القانون للمجتمع هو كالمشط الذي يزيل التشابك في الشعر , و يجعله جميلاً يسر الناظرين .
تذكير بالتاريخ و تجاربه , فالدروس كثيرة في تاريخ أمتنا , التاريخ يحدثنا كيف انقسمت الأندلس إلى إمارات متعددة , دخلت في دوامة الحروب فيما بينها , و النزاع على السلطة الذي استعان فيه الإخوة بأعداء الأمس ضد بعضهم البعض, إلى درجة وصلت أن تقوم بعض الممالك بدفع الجزية للصليبيين لحمايتهم , سقطت الأندلس و سقط معها الملايين من المسلمين فمن لم يُقتل , تم تنصيره أو استعباده .
في مشهد مشابه إلى حد ما , خاضت الكتائب في أفغانستان حربها ضد الاحتلال السوفيتي , لتنتقل بعدها إلى القتال فيما بينها و الاستعانة بالأعداء ضد من كانوا إخوة مجاهدين في السابق , و تحولت صورة الرموز كالقائد “سياف” و “حكمتيار” و “رباني” و غيرهم , إلى صور حلفاء الغرب بل بعض الفصائل أخذت العون من الصهاينة في هذا الصراع , و من ثم ليقوموا بقصف كابل و تدميرها على رؤوس المسلمين من النساء و الأطفال , ربما بذات الطريقة التي كان يقصفهم بها المحتل السوفيتي , و ليسقط عشرات الألوف من المجاهدين بأيدي بعضهم البعض , و هم الذين كانوا إخوة الخنادق في حربهم ضد الاحتلال .
و في منطقتنا , تحولت الخلافة العثمانية إلى عبء على الشعوب في مراحلها الأخيرة و تفشى الظلم و الفساد و القتل , مما دفع برعاياها المسلمين للاستعانة بأعدائهم ليتخلصوا من هذا العبء و تسقط الخلافة على يد أبناءها و شعوبها .
ما الذي يجعل إخوة الأمس يتحولون إلى أعداء اليوم في انقلاب كامل من ضفة الأخ و الحليف إلى ضفة العدو اللدود ؟ هل يقع اللوم على من انقلب فقط أم أن الفريق الآخر يتحمل اللوم أيضاً ؟ …
ليس لديّ جواب قاطع , و لكن من قراءتي للتاريخ استنتجت أنه الصراع على السلطة و النفوذ , هو المحرك الحقيقي لكل هذه التقلبات و العداء الذي يستحكم الأشخاص لدرجة الانقياد الأعمى , و دائماً كان يتم تطويع الدين لدعم حجج الفرقاء …
لن نكون أفضل حالاً من الأمس , فهذه هي الآلية التي تسير بها الأمور عندما يصبح النزاع على السلطة , من يُشخّص البداية , يستطيع أن يرى النهاية بقليل من الخبرة , و عندما تقاوم الشعوب ضد الاحتلال , كائنا من كان المحتل , فلا يظن أن قوّته ستؤسس له ملكاً , فهذا وَهم , لم يستقر احتلال و لو بقي فترة من الزمن , إن مصيره إلى زوال , و الشعوب لا تُحكم بالقوة , و إلا لفعلها الغرب و الشرق قبلكم , و لسنا مضطرين للانتظار سنوات طويلة لنستيقظ على كابوس من الحقائق تفضح المجهول و تزيد من معاناتنا , الطريقة التي تسير بها الأحداث تجعلنا نرتاب في كل ما يحصل , و نحن أصحاب الرأي و القرار و لو ادعى غيرنا ذلك , و إن صدق الزاعمون و كانوا ثقاتا , فليتركوا لنا القرار و ليثقوا بنا قبل أن نضطر للثقة بهم , و إلا فإننا لسنا مضطرين لتصديق من يشك بنا و يُصغّرنا و يزعم أننا كاذبون .
لا تساهموا بتحويل الجموع إلى “صحوات” , فلتخرج كل جماعة مشروع السلطة الخاص بها من أعمالها , و لتشارك في مشروع دولة , و لا يزاحم أحد أهل البلاد على سلطانهم و لن يخضعوا , و سيستمر الصراع , السعي إلى الكمال مطلب , لكن الكمال يحتاج لبناء العزيمة و تعبئة الجماهير خلف مشروعها , و لنا عبرة في التجارب السابقة في كل البلاد التي سعت الحركات الإسلامية إلى إقامة مشروعها فيها , و تركتها وراءها قاعاً صفصفاُ حتى أصبح الرأي العام يرى فيها أداة متنقلة للتدمير .اللهم دبّر لنا فإننا لا نُحسنُ التدبير ….
نُشر المقال في موقع شبكة سبيل الإعلامية بتاريخ 21/تموز/2011
“المظلومية” التي استخدمها الكثيرون لحشد التعاطف أو لاستدرار العطف، فعلها الشيعة. و الشيوعيـة، وجماعات عرقية عديدة، واستخدمتها أمريكا لتنقذ “الحضارة الغربية” من أعدائها الذين يحسدونها عليها، و هم المسلمون “البرابرة” حسب وصف برنارد لويس , وآخرهم البغدادي في ندائه الشهيـــــــــــــــــــــر
“لكِ الله أيتها الدولة المظلومة”.
أميركا التي تنفق ما يقارب 700 مليار دولار – سنويا – على ميزانية الدفاع . و التي تدين للعالم بما يقارب من (15) تريليون دولار , لن تستطيع أن تحافظ على قيادة العالم إلا إن وضعت يدها على أهم ثرواته و هو الوقود الذي بنى الحضارة الغربية , والذي لم يماثله عبر التاريخ في أهميته إلا ” الرقيق ” من أفريقيا , الذي شكّل اليد العامـلة لبناء هذه الحضارة.
يبدو أنّ معاناتنا مع الغرب لن تنتهي , فكلما وقع الغرب بأزمةٍ اقتصادية أو سياسية . افتتح حرباً في هذه المنطقة , دينية كانت أو سياسية أو اقتصادية , المهم أن يُصدّر أزماته عبرنا , و يبدو أننا أصبحنا أكثر تآلفا مع هذه الأحداث فاعتدنا التدمير و الحروب لدرجة أننا نكاد لا نذكر آخر مرة سجل فيها التاريخ لحظاتنا الهادئة .
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي , اكتشفت أمريكا أنها في أزمة , فهي التي كانت تقود العالم بالحرب الباردة و تفرض سياستها على أوروبا و غيرها لحمايتها من الغُول الشيوعي , وجدت نفسها و كأنه سيتم التخلي عنها أو سيتم تحجيم دورها , فكانت أحداث أيلول التي قسمت العالم إلى قسمين (من ليس معنا , فهو ضدنا) , و بدأت الحرب على الإسلام , و فضحت زلّة اللسان لجورج بوش الابن بوصفها حربا (صليبية) لتوضّح لنا حقيقة المشكلة , تياران يقودان المعركة : شركات مالية و بنوك و شركات طاقة , جنبا إلى جنب مع تيار ديني صهيوني مسيحي , يزعم أن الأرض الموعودة لهبوط المسيح يجب أن تكون تحت سيطرتهم لتجهيزها لقدومه و بناء الهيكل .
ليس مصادفة أن يتفق الطرفان على إنشاء “إسرائيل” فهي بالنسبة لرجال المال و الأعمال الحصن المتقدم للحضارة الغربية على منابع النفط , و في مواجهة الخطر الآسيوي , و بالنسبة للصهاينة أرض الميعاد , و حسب تعبير ” تيودور هرتزل ” – الملحد – فهي أفضل طريقة لفصل و عزل العرق اليهودي عن أوروبا , و هذا الذي جعله يقنع زعماء أوروبا لمنحهم فلسطين كأرض للميعاد قبل أكثر من قرن .
جاءت الحرب العالمية الأولى التي أظهرت و بشكل لا يقبل الشك أن المستقبل هو للنفط , فهو العنصر الفعّال في ماكنة الاقتصاد الصناعي فكان لابد من تقاسم هذه المنطقة الغنية بالنفط , و ازدادت خبرة الغرب بهذه المنطقة و طباع أهلها , و وضعت الخطط و السيناريوهات طويلة الأمد لإبقائها تدور في دوامة الحرب و التخلف و إبعادها عن عقيدتها .. الإسلام.
في مطلع القرن الحالي أطلقت أمريكا مصطلحات ” القيادة من الخلف” و “الحرب الذكية” , و “حروب الجيل الرابع” , لتعزّز نشأة ما سمي لاحقا بـ “الصحوات” في هذه المنطقة ’ وقود الحركات الإسلامية و المحفز لها على الاستمرار , فمن ليس معنا فهو ” صحوات ” , ذات الشعار الغربي و لكن بمفهوم آخر .. و يتفرغ الغرب لخططه في آسيا و الباسيفيك , هذه المنطقة بحسب “ليون بانيتا” و “هيلاري كلينتون” هي منطقة القرن الحادي و العشرين الذي هو “قرن الباسيفيك بامتياز”.
لكن لمَ كل هذا …؟
إن خطة من هذا النوع ستشكل رادعاً للمشروع الفارسي و إشغاله بحرب عرقية عقائدية , و ستؤدي بالتالي إلى إنهاك المنطقة و تدميرها بأيدي أبنائها و بأموال النفط فيها و بأسلحة الغرب , و سنقتل بعضنا بعضاً تحت شعارات كثيرة , و سيوفر ذلك على الغرب الخسارة في الجنود , وسيُموّل هذه الحروب حكومات تخشى على بقائها من بني جلدتها أو من محيطها لتبقى قابعة تحت سيف القوى العظمى التي تحميها وتحافظ على بقائها و تبيعها السلاح , وتبقى شعوبها قابعة تحت سلطانها بذات الذلّ .. , كل ما يلزم هو أن يقوم الغرب ببضع عمليات جراحية و بأسلحة متطورة لتخلق حالة من المد و الجزر بين الحركات الإسلامية و الصحوات و لا قيمة للزمن بالنسبة لنا , و لا قيمة لأي بنية تحتية , فبمجرد أن ندفع ثمنها و نبنيها , فنحن جاهزون لتدميرها بأيدينا أو بأيدي الحكام و الأمراء مرة أخرى و في حروب جديدة .
وكي لا تقوم لنا قائمة , كان لا بد من مركز دائم و علامة تجارية فارقة , توازي أو تتفوق على أحداث أيلول , لا بد لنا من ” خليفة ” طاعته واجبة و بيعته شرع قائم , و إلا فنحن بحكم الشرع صحوات و لا داعي لفتاوى العلماء , فالفتاوى كثيرة و الكتب تزخر بهذه الفتاوى و الاجتهادات كثيرة , و كلٌّ ينتقي الاجتهاد الذي يناسب هدفه و يحققه .
إنها نقطة تفريغ لجهود المسلمين و أجيالهم و طموحاتهم , و نقطة استقطاب للمتحمسين المغرّر بهم , و الصّدم سيكون على أشدّه , لم لا , طالما أن القتل تَقرُّب إلى الله , و الحَجر على الحريات مدعّم بالكثير من الاجتهادات و لو على الشبهة , و يكفيك أن تُحسن القراءة لتنشئ أحكامك الخاصة , فباب الاجتهاد مفتوح و يكفيك التأويل لتخرج عن أي إجماع للأمة , فإن لم تجد , فبإمكانك التجديد , فأنت أمّةٌ وحدك!!
هذا الاضطراب , سيكون بعيداً عن منابع النفط و ممراته , و سيخلق حالة من عدم الأمان في المنطقة , مما يكفي ليدفع بأموال النفط للهرب إلى الغرب فيحافظ الدولار الوهمي على قوته , و إن حصل و انتصر أي فريق على الآخر , فلا بأس من حِصاره , أو احتوائه و التفاوض معه و البدء بلعبة جديدة , طائفية أو عرقية أو مناطقية.
و كذلك سيكون هذا الاضطراب بعيداً عن الغرب , فحروبنا بيننا و على أرضنا , و نحن وقودها مادياً و بشرياً.
العقول التي لم تُقتل , ستهاجر إلى الغرب و سيتم استثمارها مقابل مبادلتها بالأمن و الغذاء , و الأجيال الناشئة ستكون بين مطرقة الجهل و سندان التغريب , و يبدأ فصل جديد و تجربة إستراتيجية جديدة .
تنظيم البغدادي تم استدراجه ليكون شوكة في خاصرة الأمة و خاصرة الثورة السورية , و هو بهذا الإعلان تحوّل إلى فيروس يفتك بالعقل الإسلامي – نفس المشكلة التي عانينا منها بعد ثورة الخميني التي أورثتنا قتلة يسفكون دماءنا بكل رضا و سعادة – , فالمسلم حائرٌ بين فتاوى الإمامة و البيعة و الإجماع , و أهل الحلّ و العقد , و الأئمة منقسمون في حالة من التشظّي , فبين موافق , أو رافض , أو صامت و محايد , و لا إجماع على حالة و لا أغلبية لقرار , و البقية من عموم الناس لا حول لها و لا قوة , تنتظر حلاً , فإما مغالب تخضع له لتنجو من القتل ريثما يحصل انفراج أو قوة , و بين خوف من العودة إلى الاحتلال و ضياع التضحيات يدفعها للاستعانة بأعدائها و تتحول إلى صحوات , خياران لا حلو فيهما ليقال أحلاهما مر .
خطابي هذا للعموم , و ليس للقيادات أو الأمراء , أَجمِعوا على إخراج هذا التنظيم من سوريا , الخيار الوطني هو خيار لابد منه , لا تصدّقوا الاتهامات بأن الوطنية كفر , و لا تقعوا فريسة وَهم سايكس بيكو , فحدود سايكس بيكو ليست على الخرائط , بل هي في وجدان الأمة و أبنائها و كلنا يعلم ذلك , و عندما تسقط هذه الحدود من وجدان الأمة بالتعايش و التعاون و التكامل , عندها تسقط من الجغرافيا , العائلة التي تعيش في مجتمع فاسد , من حقها أن تحمي بيتها و من حق رب الأسرة أن يمنع الفاسدين من الاختلاط بأبنائه , إن لم تلتفّوا حول إجماعٍ وطني يحقق مرحلة أولى من التحاور و بحث المشكلات فنحن في ورطة لا نهاية لها ستستنفذ كل ما لدينا .
لا تقعوا فريسة للمشاريع ” المعلّبة ” و الجاهزة , مشروعنا نعرفه منذ خرجنا في أول يوم في الثورة , إنها حرب استقلال و ليست إعادة اقتسام للسلطة و مناطق النفوذ , نحن لم نخرج لنصنع انقلاباً , بل خرجنا لنحرر الأرض و الإنسان من الوصاية و استلاب القرار , و من يخشى على الدين و الأرض , فهذه البلاد هويتها ليست محل نقاش أو اجتهاد , هي إسلامية بامتياز , و هي عقر دار الإسلام , فإما فرصة لالتقاط الأنفاس و البدء بالبناء و نبذ الفرقة و الاختلاف , و إلا فهو الدمار للجميع و لأجيال كاملة.
نحن بالنسبة للغرب نواجه حقيقة قديمة لم و لن تنتهي , فوجودنا في هذه المنطقة على مر التاريخ كان غير مرغوب فيه و غير مناسب لهم و مزعج لدرجة أن أي ملك أو قيصر في الغرب كان يتحمس لإرسال جيوشه للقضاء علينا حتى لو لم يكن يعرفنا , الآن جاءنا وافد جديد يشعر بذات الشعور فهو غير راغب بوجودنا و يرانا غير مناسبين لمهمته الجليلة (أقصد به تنظيم البغدادي) , فاستعيدوا قراركم بالإجماع على حل حقيقي يوفر علينا الكثير من المعارك , و يوحد الصفوف باتجاه حرب التحرير .
لمن يسأل ما هو الحل , القيادات الموجودة على الساحة إسلامية و غير إسلامية , ندعمها و نعزز مكانتها لبناء مشروع وطني جامع للسلطة , واضح المعالم و تشاركي و بعيداً عن التعقيد و التنظير ,يتم من خلاله تحديد شكل لتطبيق القانون و حماية الدين و الأنفس و الأموال … المواطنة حق لكل من نشأ على هذه الأرض , و لن نلقي بأحد في البحر , و الفاسد نستطيع منع فساده بالقانون , و نستطيع إصلاحه بالدين و الدعوة .
العدل حق لكل مظلوم , و القصاص من الظالم أو المعتدي شرعة إنسانية تُقرّها كل الأعراف و الأديان فهي ليست محل خلاف و لن يفلت أحد من العقاب إن تم تطبيق القانون .
الناس لن تستطيع الوقوف على أرض رخوة , الفوضى و الحيرة و اختلاف آراء العلماء , و نسبة الجهل بين الآخرين , هي أرض رخوة و لا تبني العزيمة و لا تحقق الهدف , بل هي استثمار ممتاز في الحروب فقط و ستعجز عن بناء الدولة , و هي ثغرات في العقل الإسلامي ستحوله إلى أدوات ” للشد العكسي ” و متوالية الجهل و التخلف , و ستفتح الباب لكل طاعن في الإسلام و مشكك به , و بدأنا نرى من يشكك بالأحاديث و التاريخ , بل بدأت عمليات تشريح لشخوص الصحابة رضي الله عنهم أجمعين . القانون للمجتمع هو كالمشط الذي يزيل التشابك في الشعر , و يجعله جميلاً يسر الناظرين .
تذكير بالتاريخ و تجاربه , فالدروس كثيرة في تاريخ أمتنا , التاريخ يحدثنا كيف انقسمت الأندلس إلى إمارات متعددة , دخلت في دوامة الحروب فيما بينها , و النزاع على السلطة الذي استعان فيه الإخوة بأعداء الأمس ضد بعضهم البعض, إلى درجة وصلت أن تقوم بعض الممالك بدفع الجزية للصليبيين لحمايتهم , سقطت الأندلس و سقط معها الملايين من المسلمين فمن لم يُقتل , تم تنصيره أو استعباده .
في مشهد مشابه إلى حد ما , خاضت الكتائب في أفغانستان حربها ضد الاحتلال السوفيتي , لتنتقل بعدها إلى القتال فيما بينها و الاستعانة بالأعداء ضد من كانوا إخوة مجاهدين في السابق , و تحولت صورة الرموز كالقائد “سياف” و “حكمتيار” و “رباني” و غيرهم , إلى صور حلفاء الغرب بل بعض الفصائل أخذت العون من الصهاينة في هذا الصراع , و من ثم ليقوموا بقصف كابل و تدميرها على رؤوس المسلمين من النساء و الأطفال , ربما بذات الطريقة التي كان يقصفهم بها المحتل السوفيتي , و ليسقط عشرات الألوف من المجاهدين بأيدي بعضهم البعض , و هم الذين كانوا إخوة الخنادق في حربهم ضد الاحتلال .
و في منطقتنا , تحولت الخلافة العثمانية إلى عبء على الشعوب في مراحلها الأخيرة و تفشى الظلم و الفساد و القتل , مما دفع برعاياها المسلمين للاستعانة بأعدائهم ليتخلصوا من هذا العبء و تسقط الخلافة على يد أبناءها و شعوبها .
ما الذي يجعل إخوة الأمس يتحولون إلى أعداء اليوم في انقلاب كامل من ضفة الأخ و الحليف إلى ضفة العدو اللدود ؟ هل يقع اللوم على من انقلب فقط أم أن الفريق الآخر يتحمل اللوم أيضاً ؟ …
ليس لديّ جواب قاطع , و لكن من قراءتي للتاريخ استنتجت أنه الصراع على السلطة و النفوذ , هو المحرك الحقيقي لكل هذه التقلبات و العداء الذي يستحكم الأشخاص لدرجة الانقياد الأعمى , و دائماً كان يتم تطويع الدين لدعم حجج الفرقاء …
لن نكون أفضل حالاً من الأمس , فهذه هي الآلية التي تسير بها الأمور عندما يصبح النزاع على السلطة , من يُشخّص البداية , يستطيع أن يرى النهاية بقليل من الخبرة , و عندما تقاوم الشعوب ضد الاحتلال , كائنا من كان المحتل , فلا يظن أن قوّته ستؤسس له ملكاً , فهذا وَهم , لم يستقر احتلال و لو بقي فترة من الزمن , إن مصيره إلى زوال , و الشعوب لا تُحكم بالقوة , و إلا لفعلها الغرب و الشرق قبلكم , و لسنا مضطرين للانتظار سنوات طويلة لنستيقظ على كابوس من الحقائق تفضح المجهول و تزيد من معاناتنا , الطريقة التي تسير بها الأحداث تجعلنا نرتاب في كل ما يحصل , و نحن أصحاب الرأي و القرار و لو ادعى غيرنا ذلك , و إن صدق الزاعمون و كانوا ثقاتا , فليتركوا لنا القرار و ليثقوا بنا قبل أن نضطر للثقة بهم , و إلا فإننا لسنا مضطرين لتصديق من يشك بنا و يُصغّرنا و يزعم أننا كاذبون .
لا تساهموا بتحويل الجموع إلى “صحوات” , فلتخرج كل جماعة مشروع السلطة الخاص بها من أعمالها , و لتشارك في مشروع دولة , و لا يزاحم أحد أهل البلاد على سلطانهم و لن يخضعوا , و سيستمر الصراع , السعي إلى الكمال مطلب , لكن الكمال يحتاج لبناء العزيمة و تعبئة الجماهير خلف مشروعها , و لنا عبرة في التجارب السابقة في كل البلاد التي سعت الحركات الإسلامية إلى إقامة مشروعها فيها , و تركتها وراءها قاعاً صفصفاُ حتى أصبح الرأي العام يرى فيها أداة متنقلة للتدمير .اللهم دبّر لنا فإننا لا نُحسنُ التدبير ….
نُشر المقال في موقع شبكة سبيل الإعلامية بتاريخ 21/تموز/2011