" إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ "
سورة الحجّ- 38
استخدمت كلمة " ظاهرة " في عنوان المقال لتتناول الأحداث و الظروف التي تجعل من "معاذ الخطيب " ظاهرة و ليس شخصاً , و نبتعد عن شخصنة التحليل قدر الإمكان
فهو نقطة استقطاب لجملة من الطروحات و التيارات و المصالح , التي باتت مهددة من انتصار الثورة
السورية , فكان لا بد من عمل مشترك يحفظ بقاء هذا " التجمع العِصابيّ " عبر مبادرة يقودها شخص يمتلك القدرة على أن يكون الناطق الرسمي لهذه الظاهرة .
بدايةً ...محور المقال حول الجهاد ,لذلك من المهمّ أن نوضّح مفهوم " الجهاد " الذي هو أوسع من المقاومة , فالجهاد في الإسلام يسير ضمن ضوابط و أهداف تمنع تحوّله إلى استبداد أو " قوة فوق الحق " و عليه أن يبني سلطة تحقق العدالة الاجتماعية ضمن ضوابط الشريعة التي تحمل في طياتها الأعراف الإنسانية الفاضلة , في حين أن المقاومة هي دفع الظلم و للمنتصر أن يبني السلطة التي يريدها بالشكل الذي يحقق مصالحه .
الجهاد " مطلب حتميّ " و ليس خَياراً , فهو بديهية الحياة , فالإنسان منذ مولده حتى مماته يجاهد في حياته ليدفع عن نفسه الظلم ماديّاً و معنوياً حسب استطاعته , ليحصل على حريته و يحافظ على هذه الحرية , و الحريّة فطرة إنسانية في كل البشر , فالارتباط بين الجهاد و الحرية هو الفارق بين الحياة و الموت , على اعتبار أن حياة العبيد ليست حياة .
كما أن الجهاد مطلب حتميّ للمسلم , كذلك فإن الاستبداد هو مطلب حتمي للظالم , فلم يتخلى مستبدٌّ عن "مُلكه " بإرادته و إنما أسقطته المقاومة دائماً , لذلك تشابهت نهايات المستبدّين عبر التاريخ .
مملكة الاستبداد ليست قائمة بذاتها , فهي تبني لنفسها خطوط دفاع متقدمة عبر ما يشبه الممالك الصغيرة من المنتفعين و أصحاب المصالح , هذه الممالك الصغيرة تساهم في بقاء و حماية مملكة الاستبداد مصحوبة بالقوة بأشكالها المختلفة .
يعلم السوريون أن احتلال البعث لم يكن قائماً بذاته , بل شكّل تحالفات و تعايش مع عدة ممالك صغيرة حفظت وجوده و استمراره في تبادل مشترك للمصالح , هذه التحالفات قامت على أركان متعددة محمية بغطاء و مباركة غربية :
الطوائف , التجار و رجال الأعمال , التيارات العلمانية , التيارات القومية , و عائلات رمزية من بقايا الاستبداد السابق و زعامات اجتماعية شكّلت العامل المسكّن لأي صداع يتعرض له نظام السلطة في المجتمع , مع السماح بمقاومة محدودة عبر معارضة هزيلة لا تملك مشروعا و إنما تملك بعض المطالب الإصلاحية و سيلٌ من المطالب الشخصية .
إلى جانب ما سبق , كان هناك أهم الأركان في المجتمع المسلم , طبقة رجال دين و مشيخات من المدارس التقليدية , مهمتها تحييد فكرة الجهاد و حصر الدين في دراسات و تحقيقات , إلى جانب طقوس و علاجات نفسية عنوانها الصبر و الدعاء و التمني على الله , فنمى تيار تبنى التقيّة و النفاق للتعايش و انتظار الفرج , و كاد أن يشكل هذا التيار ثقافة فكرية في المجتمع لولا أصالة المجتمع الإسلامي الذي شعر بفطرته أنه يسير ضد فطرته , و لم تفلح محاولات قلة من العلماء في نشر فكر الجهاد فتوزعوا ما بين شهيد و سجين و مطارَد .
سقوط مملكة الاستبداد يعني سقوط مصالح هذه الممالك الصغيرة , و أخطر ما في هذه الثورة هو فكرة الجهاد , هذه الفكرة التي أرهقت الإنكليز في الهند و هددت وجودهم , حتى التقطوا " غلام أحمد القادياني " الذي جعل قتال الإنكليز محرّماً و دعمه الانكليز بكل الوسائل لتنتشر مبادءه في التعايش و السلام , و تم القضاء على فريضة الجهاد .
و في محاولة شبيهة ما حصل في إمارات الجزيرة العربية , فلم تنتهي الثورات على الاستعمار البريطاني ايام الخلافة العثمانية إلا بالقضاء على الجهاد عبر التحالف مع الأمراء أصحاب المصالح , و إدخال معتنقي العقيدة الشيعية الذين كانوا ( وقتها ) لا يؤمنون بالجهاد قبل ظهور المهدي , و بذلك ضَمن الاستعمار مصالحه عبر المنتفعين من الأمراء و عبر الكانتونات الشيعية التي جعلها تهديداً دائماً للاستقرار و التخويف , لتبقى هذه الإمارات في حاجة مستمرة للمستعمر , و مع انهيار فكرة الجهاد انهارت الكثير من المطالب الاستقلالية و تم تحوير الواقع إلى تعايش و تبعية مع الاستعمار .
الثورة السورية لم تتبنى فكر الجهاد في أيامها الأولى بشكل عام , و لكن الحرب الدموية التي شُنّت على السوريين و المواقف المخزية لأصحاب " الممالك الصغيرة " , دفعت السوريين للتمسك بحاضنتهم الأصيلة لمواجهة هذه الحرب و توجيهها , فكان الإسلام هو الوعاء الذي يحمل ضميرهم و عزّتهم و انطلق الجهاد كمطلب في أشكال عديدة من جيش حر إلى فصائل إسلامية إلى مجموعات شبابية تشكلت تحت الخطر , و أصبح الجهاد عنوانا يتحدث به الجميع و في كل مكان , و انتشر كثقافة خلال فترة وجيزة , بأشكال متعددة من جهاد النفس و المال و العمل و العلم , و هو العنوان الذي كلّف الأعداء كثيراً كي يختفي من أدبياتنا الاجتماعية .
في استنساخ ( مطوّر ) للتجارب السابقة , كان لابد من إيجاد شخص يحمل مواصفات تسمح أن يكون رمزاً لهذه التيارات و له مهمة محددة و هي " القضاء على الجهاد " أو تحييده , و جيء بمعاذ الخطيب ( بعلمه أو مصادفة ) , و له من الصفات ما يساعده على تولي هذه المهمة .
فهو دمشقيّ مقبول لدى التجار و رجال المال و العائلات الرمزية , و هو " حَسنيّ " منسوب لآل البيت و مقبول للشيعة و بقية الأديان, و يحمل شهادة جامعية سيخفف من رفض الأكاديميين له , خطيب سابق في المسجد الأموي , فهو يمتلك الخبرة في الخطابة و يحرّك فينا عاطفة الجذور الأموية .
مسلمٌ " معتدل " فهو ليس إرهابيّاً و لا تكفيرياً , سمِحٌ مع العلمانيين و الشيوعيين و بقية العقائد تحت مظلة الإسلام السمح الذي يحمل رسالة المحبة و السلام , في مشهد باهت يذكرنا بأدبيات ما بعد الحربين العالميتين اللتان دمرتا الجنس البشري و القيم الإنسانية , حيث انتشرت مباهج الحياة و الملابس الملونة و الموسيقا و الفن و كأن الشرير المزعوم " هتلر " هو الذي كان يحجب هذه الأُلفة البشرية عبر التاريخ , و بالطبع خلف هذه البهجة الوهمية كان يتم اقتسام العالم بين دول الاستعمار .
هذا ليس اتهاماً لمعاذ الخطيب بالعمالة و التآمر , فقد يكون هو كذلك فعلاً و ربما رسخ في ذهنه أن الإسلام " العصريّ " دعوي فقط دون جهاد السيف , كما رسخ في ذهن بعض النصارى عقيدة " الفادي " و " إذا ضربك على خدك فأدر له الخد الآخر " رغم ما يحتويه إنجيلهم من قصص الحرب و القتل .
لم نمتلك منذ بداية الثورة إلا ثقتنا بالله عزوجل , و أصبح لنا شوكة الجهاد بعد ما عانيناه عبر سنواتها , فإن فقدنا هذه الشوكة و تخلينا عن الجهاد , ستعود البقية التي ستنجو من التصفية إلى طقوس دعاء المستضعف و التبرّك بالمشايخ و " أصحاب الخطوة " ذوي الأسرار المقدسة .
معاذ الخطيب الذي يدعمه الفرنسيون , لو تواجد أيام الثورة الفرنسية لساقوه إلى المقصلة بهذه الدعوات , و لو تواجد أيام ثورة استقلال داعميه الأمريكان لأحرقوه مع جنود الجنوب , و لو تواجد في أية ثورة شيوعية لعلقوه على المشانق و وصفوه بالخيانة .
لست أدعو لذلك , و لكن لماذا كل ثورات الاستقلال و الحرية للشعوب عبر التاريخ , و حروب العزة و الكرامة أريقت بها الدماء و قُدّمت بها التضحيات , إلا ثورتنا السورية فهي في نظر معاذ مغامرة مجنونة يقودها أمراء حرب لا يهمهم القتل و الدمار , أليس هذا تجنّياً واضحاً و فجّاً علينا نحن ( الغير أمراء ) و الذين لا مصالح لدينا سوى عزتنا كمسلمين , أليس هذا استخفافاً بنا و بجهادنا و وصاية علينا ,و استلاب لقرارنا من شخص يصفنا جميعا بالجهل و التغييب و عدم الوضوح في الرؤيا !!
الثورة قامت لرسم الخطوط الحمراء و حفرها في ذاكرة الأجيال , و معاذ قادم لإزالتها و تحطيمها ضارباً بعرض الحائط إنجازات شعب يحمل ضمير الأمة و يذود عنها .
لم يجد معاذ الخطيب في التاريخ الإسلامي ما يدفعه للتفاؤل , لو قرأ عن معركة شقحب و كيف أن أهل دمشق كانوا يتنادون للهروب قبل وصول المغول , و قيّض الله لهذه الأمة رجلاً هو الشيخ إبن تيمية ليحول هذه الجموع الخائفة المرتجفة إلى جيش هزم المغول و حرر الشام و لاحق فلولهم حتى العراق , لم يجد معاذ في تاريخ الشعوب أية قصة تقنعه , لا " هانوي " و لا " ستالينغراد " , و لا " حروب ماو " الصينية .
الشيخ معاذ الخطيب لم يقرأ أن الله عزوجل أرسل جنوده للدفاع عن قريش ( المشركين ) ضد أبرهة النصراني ( المؤمن ) في أضخم حملة إعلامية عبر التاريخ طافت العالم بأسره لتعزّز قدوم رسالة الإسلام و لتمهّد الطريق لسيد البشر عليه الصلاة و السلام هذه الرسالة التي ذروة سنامها " الجهاد " .
لا زالوا يجهلون مكانة الشآم , ثلاث سنوات من الإعجاز ,لم يبق عدو أو مرتزق في العالم لم يحارب هذه الثورة و هي صامدة و متّقدة , أليس هذا إعجازاً ينبئ بأن القادم أفضل !!
إن سقط " الجهاد " في الشآم فلا يحلمنّ أحد بحياة وردية هادئة , سيساق الجميع عبيداً تحت أسِنّة الاحتلال , و لن يتبقى لنا من الكرامة ذرة واحدة , و ستتحوّل الشآم إلى بحر من الدماء , فنصف السوريين مكلومون و لن يطفيء نارهم إلا نشوة النصر أو الانتقام .
ختاماً ... لسنا نعيش في جزيرة معزولة , و يمكننا التحاور مع الشرق و الغرب , لكن لا يمكننا أبداً أن نصوّر المجاهدين عقبة في طريق السلام , و لا يمكننا أبداً أن نطفيء شعلة الجهاد التي أعادت لنا كرامتنا و عزتنا كمسلمين .
لسنا دعاة حرب أبداً , و لكننا لم نعد مستضعفين , و لنا مصالح و للعالم مصالح , نتبادلها بما لا يمسّ هويتنا و لا يقلل من قيمة التضحيات ,و يحفظ هيبتنا للأجيال القادمة كي تثور على الظلم كأجدادها , و إلا شكّلنا قطيعة بين تاريخنا و الأجيال القادمة , ثورتنا ثورة عزّ و كرامة و لسنا نادمين على الدخول بها , بل نعتبرها من أكبر النعم بعد نعمة الإسلام أن شرّفنا الله عزوجل و كنا من روّادها .
الحلّ في الداخل , مع الثوار المجاهدين , من أراد أن ينهي هذه الحرب فليوجّه بوصلته أولا باتجاه الداخل و يعمل على توحيده و سد الثغرات فيه عسكريا و سياسياً , فكرياً و اجتماعياً , بعدها يتقدم للإقليم و العالم برؤية و مطالب مدعومة بإنجازات الثوار و مباركتهم .
الصورة الشاملة أكبر بكثير من سوريا , و " أثر الفراشة " سيصل إلى كل مكان في العالم , فهذا الكون المترابط جملة واحدة و الشآم ليست كوناً منفصلاً , ربما نعرج في يوم ما على هذه النظرية إن شاء الله .
معاذ الخطيب ... أسأل الله أن يهديك و ينير بصيرتك .
نايف شعبان - 23/5/2013